كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إن} أي: ما {هي} أي: هذه الأصنام {إلا أسماء} أي: لا حقائق لها فيما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك غير الأسماء وأكد ذلك بقوله تعالى: {سميتموها} أي: ابتدعتم تسميتها.
فإن قيل: الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها أجيب: بأن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها {أنتم وآباؤكم} أي: لا غير {ماأنزل الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {بها} أي باستحقاقها للأسماء أو لما سميتموها به من الإلهية، وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} أي: حجة تصلح مسلطًا على ما يدعى فيها بل لمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط بكلمة تعتمدونها وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأيّ طريقة قويمة شرعت لكم، وأيّ كلام صالح أو بليغ برز إليكم منها وأيّ آية كبرى أرَتْكموها.
{إن} أي: ما {يتبعون} أي: في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة وأنها تشفع لهم أو تقربهم إلى الله تعالى {إلا الظن} أي: وهو غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم والظن ترجيح أحد الجائزين على زعم الظان. ولما كان الظن قد يكون موافقًا للحق مخالفًا للهوى قال تعالى: {وما تهوى الأنفس} أي: تشتهي وهي لما لها من النقص لا تشتهي أبدًا إلا ما يهوى بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما يسوق إليها العقل.
قال القشيري: فأما الظن الجميل بالله تعالى فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل إنما الظن المعلول في الله تعالى وأحكامه وصفاته. اهـ. ولهذا كان كثير من الفقه ظنيًا وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه «أنا عند ظن عبدي بي».
{ولقد جاءهم} أي: العجب أنهم يقولون ذلك والحال أنهم قد جاءهم {من ربهم} المحسن إليهم {الهدى} على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبرهان القاطع أنها ليست بآلهة، وأنّ العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار فلم يرجعوا عما هم عليه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بكسرهما والباقون بكسر الهاء وضم الميم.
{أم للإنسان} أي: كل إنسان منهم {ما تمنى} أي: من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهة عيش، ومن أن الأصنام تشفع له ليس الأمر كذلك.
{فللّه} أي: الملك الأعظم وحده {الآخرة} فهو لا يعطي ما فيها إلا لمن تبع هداه وترك هواه {والأولى} أي: الدنيا فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلًا كما هو مشاهد ولكنه يعطي منها ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه سبحانه في شيء منها.
{وكم من ملك} أي: كثير من الملائكة أي ممن يعبدهم هؤلاء الكفار، ودلّ على زيادة قوّتهم بشرف مسكنهم، وهو قوله تعالى: {في السموات} أي: وهم في الكرامة والزلفى {لا تغني شفاعتهم} أي: عن أحد من الناس {شيئًا} ثم قصر الأمر عليه ورده بحذافيره إليه بقوله تعالى: {إلا من بعد أن يأذن} أي: يمكن ويريد {الله} أي الملك الذي لا أمر أصلًا لأحد معه {لمن يشاء} من عباده من الملائكة أو من الناس أن يشفع {ويرضى} أي: ويراه أهلًا لذلك فكيف تعبد الأصنام مع حقارتها لتشفع لهم.
{إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يصدقون ولا يقرّون بالبعث وغيره من أحوال يوم القيامة {ليسمون الملائكة} أي: كل واحد منهم {تسمية الأنثى} بأن سموه بنتًا، وذلك أنهم كانوا يقولون: الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال: سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فسموهم تسمية الإناث.
فإن قيل: كيف يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوبًا على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب: بأنهم ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله تعالى عنهم: {وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى} (فصلت).
وبأنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل فإن قيل: كيف قال: تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث أجيب بأن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي.
{وما} أي: والحال أنهم ما {لهم به} أي: بما يقولون، وقيل: الضمير يعود إلى ما تقدّم من عدم قبول الشفاعة وقيل: يعود إلى الله تعالى أي ما لهم بالله تعالى {من علم} ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله تعالى: {إن} أي: ما {يتبعون} أي بغاية ما يكون من شهوة النفس في ذلك وغيره {إلا الظن} أي الذي يتخيلونه {وإن} أي: والحال أن {الظن} أي: مطلقًا في هذا وفي غيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار {لا يغني} أي إغناء مبتدأ {من الحق} أي: الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله والظن إنما يعتبر في العمليات لا في العلميات ولا سيما الأصولية {شيئًا} أي: من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدّي أبدًا إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإنّ المقصود فيها تحقيق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإنّ المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه وهو ردّه إلى الأصول المستنبط منها، لعجز الإنسان عن القطع في جميع الفروع تنبيهًا على عجزه وافتقاره إلى الله تعالى ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوّته ليكشف له عن الحقائق.
ولما أن أصروا على الهوى بعد مجيء الهدى سبب عن ذلك قوله تعالى: {فأعرض} أي: يا أشرف الرسل {عمن تولى} أي: كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة الأولى {عن ذكرنا} أي: القرآن الذي أنزلناه فلم يتله ولم يتدبر معانيه {ولم يرد} أي: في وقت من الأوقات {إلا الحياة الدنيا} أي الحاضرة لتقيده بالمحسوسات كالبهائم مع العمى عن دناءتها وحقارتها. قال الجلال المحلي: وهذا قبل الأمر بالجهاد.
قال الرازي: وأكثر المفسرين يقولون: بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: {فأعرض} منسوخ بآية القتال وهو باطل، لأنّ الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورًا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم. وقيل له: وجادلهم بالتي أحسن ثم لما لم ينفع قال له ربه: أعرض عنهم ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق، وقاتلهم والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخًا بها.
{ذلك} أي: الأمر المتناهي في الجهل والقباحة {مبلغهم} أي: نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم وتهكم بهم بقوله تعالى: {من العلم} أي غايتهم من العلم أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراض مقرر لقصور همتهم على الدنيا وقوله تعالى: {إنّ ربك} أي: المحسن إليك بالرسالة {هو أعلم} أي: عالم {بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} أي: ظاهرًا وباطنًا، تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كالطبيب للقلوب فأتى على ترتيب الأطباء في أنّ المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القويّ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي كما قيل: آخر الدواء الكي فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أولًا أمر القلوب بذكر الله تعالى فقط، فإن بذكر الله تطمئن القلوب، كما أنّ بالغذاء تطمئن النفوس والذكر غذاء القلوب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أولًا: قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر فانتفع مثل أبي بكر، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال: {أو لم يتفكروا}، {قل انظروا}، {أفلا ينظرون} إلى غير ذلك، فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
فإن قيل: إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفسًا إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى؟
أجيب: بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب.
{ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ما في السموات وما في الأرض} أي: من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السموات والأرض معترض بين الآية الأولى وبين قوله تعالى: {ليجزي الذين أساؤوا} أي: بالضلال {بما عملوا} أي: بسببه أو بجنسه إما بواسطتك بسيوفك وبسيوف أتباعك إذ أذنت لكم في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة.
تنبيه:
اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: {بمن ضل} و{بمن اهتدى}، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعًا للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى: {أعلم بمن ضلّ} أي: حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء {ويجزي} أي: ويثيب ويكرم {الذين أحسنوا} أي: على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم {بالحسنى} أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
وبين المحسنين بقوله تعالى: {الذين يجتنبون} أي: يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا {كبائر الإثم} أي: ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة والباقون بفتح الموحدة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مكسورة وعطف على كبائر قوله تعالى: {والفواحش} والفاحشة من الكبائر ما كرهه الطبع وأنكره العقل واستخبثه الشرع والكبيرة صفة عائدة إلى الكيفية.
وقوله تعالى: {إلا اللمم} فيه أوجه: أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها: أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء).
أي كبائر الأثم والفواحش غير اللمم. ثالثها: أنه متصل وهذا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر قالوا: إنّ اللمم من الكبائر والفواحش قالوا: إن معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرّة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم وروى: عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» ولمسلم «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه النطق واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه».
تنبيه:
ذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة، وقد اختلف في ضبط الكبيرة بالحد فقال جمع: هي ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جمع: هي المعصية الموجبة للحد والأوّل أوجه لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها وقال إمام الحرمين: هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وأما تعريفها بالعد فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير هي إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا المحدود من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين.
فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن واليأس من رحمة الله تعالى، وأمن مكر الله تعالى، وقتل النفس عمدًا أو شبه عمد، والفرار من الزحف وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا واللواط وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدًا، وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والسحر والنميمة، وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا فصغيرة.
ومن الصغائر النظر المحرم وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على سوآت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناسًا لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، والإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع يصيرها كبيرة إلا أن تغلب طاعاته معاصيه كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج وغيره.
{إنّ ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك {واسع المغفرة} يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة وله أن يفغر ما شاء من الذنوب ما عدا الشرك صغيرها وكبيرها كما قال تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء).
بخلاف غيره من الملوك فإنه لا يغفر لمن تكرّرت ذنوبه إليهم وإن صغرت قال البيضاويّ: ولعله عقب به وعيد المسيئين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. اهـ. ونزل فيمن كان يقول صلاتنا صيامنا حجنا {هو أعلم بكم} أي: بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم {إذ} أي: حين {أنشأكم من الأرض} أي: التي طبعها طبع الموت البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها، وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم وأنتم تراب قابلية للحياة بقوة قريبة ولا بعيدة أصلًا فميز التراب الذي يصلح لتكوينكم منه والذي لا يصلح {وإذ} أي: وحين {أنتم أجنة} أي: مستورون {في بطون أمهاتكم} فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشرّ وإن عملتم مدة من العمر بخلافه، لأنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك.
وقرأ حمزة والكسائيّ في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها، وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون، وأما في الابتداء بالهمزة فالجميع بضمها.
{فلا تزكوا} أي: تمدحوا بالزكاة وهي البركة والطهارة عن الدناءة {أنفسكم} أي: حقيقة بأن يثني الإنسان على نفسه فإنّ تزكيته لنفسه قال القشيري: من علامات كونه محجوبًا عن الله تعالى أي: من مدح نفسه على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، أو مجازًا بأن يثنى على غيره من إخوانه وأنه كثيرًا ما يثنى بشيء فيظهر خلافه وربما حصل له الأذى بسببه «وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع» الحديث ولذلك علل بقوله تعالى: {هو أعلم} أي: منكم ومن جميع الخلق {بمن اتقى} أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام فمن جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتًا.
ولما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحد منهم بسوء فعله فقال تعالى: {أفرأيت الذي تولى} أي: عن اتباع الحق والثبات عليه. قال مجاهد وأبو زيد ومقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال: إني خشيت عذاب الله تعالى فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله تعالى: {أفرأيت الذي تولى} أي أدبر عن الإيمان.